رواية أبيض وأسود
من تأليف : إلياس ربابي
مقتطف من الرواية :
إلى طلاّب الوظائف !
كان من المتواضع عليه إلى حين، أنَّ للحصول على وظيفة في الدولة، أو حيث للدولة نفوذ وتأثير، طرائق وأساليب " تقليدية " منها : أن يكون طالب الوظيفة " مدعوما " طائفياً، أو نيابياً، أو وزارياً، أو نسوياً، أو مالياً للدفع " ما فيه النَّصيب " هنا وهناك وهنالك ...
وأخيراً استحدثت طريقة جديدة ذات فاعلية وجدوى مضمونتين : تلك هي طريقة " الإرتداد " طريقة " الإنقلاب "، طريقة التحول من معارض، أو عامل في صف المعارضة، إلى موالٍ، أو عامل في صفِّ الموالاة يهاجم المعارضة ويحاربها ...
روى الشيخ محمد عبده أنّه، عندما اشتدت الخصومة بينه وبين الحديوي وصحبه، استدعى شاباً أزهرياً، رقيق الحال، كان يلوذ به، وقال له بكل جد ورزانة :
- إنني أريد لك الخير، يابني، ولكي تصيب من هذه الأيَّام شيئاً أنصحك بأن تهاجمني في مقالات تنشرها باسمك، فيلتفت خصومي إليك ويساعدونك ...
وعمل الشاب بالنصيحة، فهاجم الإمام، وانضم إلى خصومه، وحصل على منصب في الدولة ...
وما زالت نصيحة الإمام، و " وَصْفَتِهِ " صالحتين، بل معمولا بهما، في هذا الزمن، في بيئته حاكمة تصر تصرُّ على " شراء " الولاء " مُعَلَّباً وبأسعار مُحدَّدة، عوضا من أن تستأتيه عفواً وطبيعيا على يد إحسانها السياسة والتصرف.
جديد قديم ...
" واقع حال " بعض الموظفين المحظوظين في الدولة : من كبار وصغار، من قدامى عناق ومخضرمين وجدد، من أصليين ومتعاقدين، من " العاملين " في نصف دزينة وظائف، من المعينين في دزينة أو دزينتين من اللجان ذات " الدر " الوفير والخير الكثير، من آكلي البيضة وقشرتها والدجاجة التي باضتها ...
" واقع حال " هذا ذكرني بما رواه " أبو علي القالي البغدادي " في كتابه " ذيل الأمالي "، قال ، وعمر " القابضين " يطول :
" قال حميد الطوسي : كنت حاضراً دهليز " المأمون " فدعا بالنَّاس لقبض أرزاقهم، فكان أول من دخل " إسحاق الموصلي " مع الوزراء .
ثم دعا بالقواد، فكان أول من دخل إسحاق الموصلي.
ثم دعا بالقضاة، فكان أول من دخل إسحاق.
ثم دعا بالفقهاء والمعدلين، فكان أول من دخل هو.
ثم دعا بالشعراء ، فكان أول من دخل هو.
ثم دعا بالمغنين، فكان أول من دخل هو.
ثم دعا بالرماة في الهدف، فكان من دخل هو.
فعجبت من كثرة علمه وفنونه"...
... وعجبت، بدوري من قلة علمهم وكثرة فنونهم في القبض و " الزلع والبلع "، فالعزَّة لَهُم والعزاء لبيت المال!
عد والحقني ...
كانت مناقشة الموازنة، في مجلس النواب، من بعض الأوجه ، أروع " حفلة نشر " للموظفين وما منهم وما إليهم :
فقيل فيهم ما لم يقله " الحطيئة " في محياه إذ بدا له في المرآة.
وكان التنديد بقحط النتاج ( فضلاً عن الأشياء الأخرى ) ذروة المآخذ، طعنا وتقريعا وإغلاضاً في القول.
و " تكفيراً " عمَّا أتاه النواب من إثم و تعويضا عما أصاب الموظفين من سوء وأذى، أروي حكاية زميل لهم غير لبناني فيها إنتاجيا ما يعزي ويخفف من وقع المصاب.
صباح كل يوم يرفع موظف كبير في " البنتاغون " ( مقر وزارة الدفاع الأمريكية ) سماعة " التليفون الأبيض " ليستثبت : هل التلفون الأزرق في حالة جيدة؟ والتيلفون الأزرق هذا يسمح له بمراقبة حالة التليفون الأحمر المعلوم.
ثم يرجع إلى التليفون الأبيض، فيخاطب وزير الدفاع، مدلياً إليه بتقرير يومي مؤداة، دائما ما يلي : " لا شيء يستحق الذكر ... جميع الخطوط سليمة ".
... ثم يروح يعد الساعات بانتظار صباح اليوم التالي.
صح : ليس هناك سوى بنتاغون واحد ... موظف تليفوني " أحملا " واحد ...
و ولايات متحدة أميركية واحدة ...
أما عندنا فعد من هذه البضاعة والحقني ... وإياك أن تجرب عد الموظفين الذين لا عمل غير " عد الأيام وقبض الرواتب " ... و " تظبيط المقالب " لجني المكاسب ...